فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّ في ذَلِكَ} الذي ذُكِرَ من السفنِ اللاتِي يجرينَ تارةً ويركُدنَ أُخْرى على حسب مشيئتِه تعالى: {لاَيَاتٍ} عظيمةً في أنفسها كثيرةً في العددِ دالةً على ما ذُكِرَ منْ شؤونِه تعالى.
{لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لكلِّ مَنْ حبسَ نفسَهُ عن التوجِه إلى ما لا ينبغِي ووكَّلَ همَّتَهُ بالنظرِ في آياتِ الله تعالى والتفكرِ في آلائِه أو لكلِّ مؤمنٍ كاملٍ، فإنَّ الإيمانَ نصفُهُ صبرٌ ونصفُهُ شكرٌ.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا} عطفٌ على يُسكنْ والمعنى إن يشأ يسكن الريحَ فيركدنَ أو يرسلْهَا فيغرقنَ بعصفِها. وإيقاعُ الإيباقِ عليهنَّ مع أنَّه حالُ أهلهنَّ للمبالغةِ والتهويلِ. وإجراء حُكمِه على العفوِ في قوله تعالى: {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} لِما أنَّ المَعْنى أو يُرسلْها فيوبقْ ناسًا ويُنجِ آخرينَ بطريق العفوِ عنهُم. وقرئ {ويعفُو} على الاستئناف {وَيَعْلَمَ الذين يجادلون في آياتنا} عطفٌ على علة مقدرةٍ مثل لينتقمَ منهم وليعلم الخ كما في قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} وقوله: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تأويل الأحاديث} ونظائِرِهِما. وقرئ بالرفعِ على الاستئنافِ وبالجزمِ عطفًا على يعفُ فيكونُ المَعْنى وإنْ يشأْ يجمعْ بينَ إهلاكِ قومٍ وإنجاء قومٍ وتحذيرِ قومٍ.
{مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} أي منْ مهربٍ من العذابِ. والجملةُ معلّقٌ عنها الفعلُ.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شيء} مما ترغبونَ وتتنافسونَ فيهِ.
{فمتاع الحياة الدنيا} أي فهُو متاعُها تتمتعونَ به مدةَ حياتِكم {وَمَا عِندَ الله} من ثواب الآخرةِ {خَيْرٌ} ذاتًا لخلوصِ نفعِه {وأبقى} زمانًا حيثُ لا يزولُ ولا يَفْنى {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا على غيرِه أصلًا. والموصولُ الأولُ لما كانَ مُتضمنًا لمَعْنى الشرطِ منْ حيثُ أنَّ إيتاء مَا أُوتُوا سببٌ للتمتعِ بها في الحياة الدُّنيا دخلتْ جوابَها الفاء بخلافِ الثانِي. وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أنَّه تصدقَ أبُو بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بمالِه كلِّه فلامَهُ جمعٌ من المسلمينَ فنزلتْ.
وقوله تعالى: {والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} أي الكبائر من هذا الجنس {والفواحش وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} معَ ما بعدَهُ عطفٌ على {الذينَ آمنُوا}، أو مدحٌ بالنصبِ أو الرفعِ وبناء {يغفرونَ} على الضميرِ خبرًّا لهُ للدلالةِ على أنَّهم الأَخِصَّاء بالمغفرةِ حالَ الغضبِ لعزةِ منالِها وقرئ {كبيرَ الإثمِ} وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهُمَا {كبيرُ الإثمِ} الشركُ.
{والذين استجابوا لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة} نزلَ في الأنصارِ دعاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمانِ فاستجابُوا له.
{وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} أي ذُو شُورى لا ينفردونَ برأيٍ حتى يتشاورُوا ويجتمعُوا عليهِ وكانُوا قبلَ الهجرةِ وبعدَهَا إذا حزبَهُم أمرٌ اجتمعُوا وتشاورُوا {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أيْ فِي سبيلِ الخيرِ، وَلعلَّ فصلَهُ عن قرينِه بذكرِ المشاورةِ لوقوعِها عند اجتماعِهم للصلواتِ.
{والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي ينتقمونَ ممَّنْ بَغَى عليهِم على ما جعلَهُ الله تعالى لهُم كراهةً التذللِ، وهو وصفٌ لهم بالشجاعةِ بعدَ وصفِهم بسائرِ مُهمَّاتِ الفضائلِ وهَذَا لا ينافِي وصفَهُم بالغُفرانِ فإنَّ كلًا منهما فضيلةٌ محمودةٌ في موقعِ نفسهِ، ورذيلةٌ مذمومةٌ في موقعِ صاحبهِ، فإنَّ الحِلْمَ عن العاجزِ وعوراء الكرامِ محمودٌ وعن المتغلبِ ولغواء اللئامِ مذمومٌ فإنَّه إغراء على البَغِي، وعليهِ قول مَنْ قال:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَه ** وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمرَّدًَا

فَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيفِ بالعُلا ** مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى

وقوله تعالى: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} بيانٌ لوجهِ كونِ الانتصارِ من الخصالِ الحميدةِ مع كونِه في نفسِه إساءةً إلى الغيرِ، بالإشارةِ إلى أنَّ البادىء هُو الذي فعلَهُ لنفسهِ، فإنَّ الأفعالَ مستتبعةٌ لأجزيتِها حَتمًا إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًا فشرٌّ، وفيه تنبيهٌ على حُرْمةِ التعدِّي، وإطلاقُ السيئةِ على الثانيةِ لأنَّها تسوء مَنْ نزلتْ بهِ {فَمَنْ عَفَا} عنِ المسيء إليه {وَأَصْلَحَ} بينَهُ وبينَ مَنْ يعاديهِ بالعفوِ والإغضاء كَما في قوله تعالى: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} عِدَةٌ مُبهمةٌ منبئةٌ عن عظمِ شأنِ الموعودِ وخُروجِه عن الحدِّ المعهودِ.
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} البادئينَ بالسيئةِ والمتعدِّينَ في الانتقامِ.
{وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي بعدَ ما ظُلِمَ، وقَدْ قُرِئ بهِ.
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ المَعْنى، كَما أنَّ الضميرينِ لَها باعتبارِ اللفظِ.
{مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} بالمُعَاتبةِ أو المُعَاقبةِ {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} يبتدئونَهُم بالإضرارِ أوْ يعتدونَ في الانتقامِ.
{وَيَبْغُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق} أيْ يتكبرونَ فيَها تجبرًّا وفسادًا {أولئك} الموصوفونَ بما ذُكِرَ من الظُّلمِ والبغيِ بغيرِ الحقِّ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بسببِ ظُلمهم وبغيِهم {وَلَمَن صَبَرَ} على الأذَى {وَغَفَرَ} لِمَنْ ظلمَهُ وَلم ينتصرْ وفوَّضَ أمرَهْ إلى الله تعالى: {إِنَّ ذلك} الذي ذُكِرَ مِنَ الصبرِ والمغفرةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أيْ إنَّ ذلكَ مِنْهُ، فحذفَ ثقةً بغايةِ ظهورِه كَما في قولهم السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ، وهَذا في الموادِّ التي لا يُؤدِّي العفوُ إلى الشرِّ كَما أُشيرَ إليه. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ}.
ذكر سبحانه بعض آياته الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده، وصدق ما وعد به من البعث، فقال: {وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السماوات والأرض} أي: خلقهما على هذه الكيفية العجيبة، والصنعة الغريبة {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} يجوز عطفه على خلق، ويجوز عطفه على السماوات، والدابة اسم لكل ما دبّ.
قال الفراء: أراد ما بثّ في الأرض دون السماء كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من الملح دون العذب.
وقال أبو عليّ الفارسي: تقديره: وما بثّ في أحدهما، فحذف المضاف.
قال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة، والناس، وقد قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النمل: 8] {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ} أي: حشرهم يوم القيامة {إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ}، الظرف متعلق بجمعهم لا بقدير قال أبو البقاء: لأن ذلك يؤدي، وهو على جمعهم قدير إذا يشاء، فتتعلق القدرة بالمشيئة، وهو محال، قال شهاب الدين: ولا أدري ما وجه كونه محالًا على مذهب أهل السنّة.
فإن كان يقول بقول المعتزلة، وهو: أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: ما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت، فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي.
قرأ نافع، وابن عامر: {بما كسبت} بغير فاء، وقرأ الباقون بالفاء.
{وما} في: {وَمَا أصابكم} هي: الشرطية، ولهذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور، ولا يجوز حذفها عند سيبويه، والجمهور، وجوّز الأخفش الحذف كما في قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، وقول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ** والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

وقيل: هي الموصولة، فيكون الحذف، والإثبات جائزين، والأوّل أولى.
قال الزجاج: إثبات الفاء أجود؛ لأن الفاء مجازاة جواب الشرط، ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى: الذي، والمعنى: الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم.
قال الحسن: المصيبة هنا الحدود على المعاصي، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} من المعاصي التي يفعلها العباد، فلا يعاقب عليها، فمعنى الآية: أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب، ويعفو عن كثير من الذنوب.
وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه، أو يكفر عنه من ذنوبه.
وقيل: هذه الآية مختصة بالكافرين على معنى: أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفرًا عنهم لذنب، ولا محصلًا لثواب، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم، فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة.
والأولى حمل الآية على العموم، والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب، ورفع الخطاب به.
قال الواحدي: وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين: صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عفا عنه في الدنيا، وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنّة الله مع المؤمنين.
وأما الكافر، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة {وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرض} أي: بفائتين عليه هربًا في الأرض، ولا في السماء لو كانوا فيها بل ما قضاه عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم {وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ} يواليكم، فيمنع عنكم ما قضاه الله {وَلاَ نَصِيرٍ} ينصركم من عذاب الله في الدنيا، ولا في الآخرة.
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على توحيده، وصدق ما وعد به، فقال: {وَمِنْ ءاياته الجوار} قرأ نافع، وأبو عمرو: (الجواري) بإثبات الياء في الوصل، وأما في الوقف، فإثباتها على الأصل، وحذفها للتخفيف، وهي: السفن واحدتها جارية أي: سائرة {فِى البحر كالأعلام} أي: الجبال جمع علم، وهو الجبل، ومنه قول الخنساء:
وإن صخرًا لتأتمّ الهداة به ** كأنه علم في رأسه نار

قال الخليل: كلّ شيء مرتفع عند العرب، فهو علم.
وقال مجاهد: الأعلام القصور واحدها علم {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح} قرأ الجمهور بهمز: {يشأ}، وقرأ ورش عن نافع بلا همز.
وقرأ الجمهور: {الريح} بالإفراد، وقرأ نافع: (الرياح) على الجمع، أي: يسكن الريح التي تجري بها السفن {فَيَظْلَلْنَ} أي: السفن {رَوَاكِدَ} أي: سواكن ثوابت {على ظَهْرِهِ} البحر، يقال: ركد الماء ركودًا: سكن، وكذلك ركدت الريح، وركدت السفينة، وكل ثابت في مكان، فهو راكد.
قرأ الجمهور: (فيظللن) بفتح اللام الأولى، وقرأ قتادة بكسرها، وهي لغة قليلة.
{إِنَّ في ذَلِكَ} الذي ذكر من أمر السفن {لأَيَاتٍ} دلالات عظيمة {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء.
قال قطرب: الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
قال عون بن عبد الله:
فكم من منعم عليه غير شاكر ** وكم من مبتلي وهو غير صابر

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا} معطوف على يسكن، أي: يهلكهنّ بالغرق، والمراد: أهلكهن بما كسبوا من الذنوب، وقيل: بما أشركوا.
والأوّل أولى، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك، يقال: أوبقه، أي: أهلكه {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم، فينجيهم من الغرق.
قرأ الجمهور: {يعف} بالجزم عطفًا على جواب الشرط.
قال القشيري: وفي هذه القراءة إشكال؛ لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح، فتبقي تلك السفن رواكد، أو يهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف {يعف} على هذا، لأنه يصير المعنى: إن يشأ يعف، وليس المعنى ذلك، بل المعنى: الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة، فهو: إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، وقد قرأ قوم: {ويعفو} بالرفع، وهي جيدة في المعنى.
قال أبو حيان: وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب، والمعنى: إلاّ أنه تعالى أهلك ناسًا، وأنجى ناسًا على طريق العفو عنهم، وقرأ الأعمش: {ويعفو} بالرفع، وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش ** أجبّ الظهر ليس له سنام

بنصب ونأخذ {وَيَعْلَمَ الذين يجادلون في آياتنا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} قرأ الجمهور بنصب: {يعلم} قال الزجاج: على الصرف، قال: ومعنى الصرف: صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى، قال: وذلك أنه لما لم يحسن عطف {ويعلم} مجزومًا على ما قبله إذ يكون المعنى: إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله، ولا يتأتى ذلك إلاّ بإضمار أن، لتكون مع الفعل في تأويل اسم، ومن هذا بيتا النابغة المذكوران قريبًا، وكما قال الزجاج.
قال المبرّد، وأبو عليّ الفارسي: واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته.
وقيل: النصب على العطف على تعليل محذوف، والتقدير: لينتقم منهم، ويعلم.
واعترضه أبو حيان بأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم، ونجاة قوم، فلا يحسن تقدير لينتقم منهم.
وقرأ نافع، وابن عامر برفع: {يعلم} على الاستئناف، وهي قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ.
وقرىء بالجزم عطفًا على المجزوم قبله على معنى: وإن يشأ يجمع بين الإهلاك، والنجاة، والتحذير، ومعنى: {مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ}: ما لهم من فرار، ولا مهرب، قاله قطرب.
وقال السدي: ما لهم من ملجأ، وهو مأخوذ من قولهم: حاص به البعير حيصة: إذا رمى به، ومنه قولهم: فلان يحيص عن الحق، أي: يميل عنه.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شيء فمتاع الحياة الدنيا} لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد، ذكر التنفير عن الدنيا، أي: ما أعطيتم من الغنى، والسعة في الرزق، فإنما هو متاع قليل في أيام قليلة ينقضي، ويذهب.
ثم رغبهم في ثواب الآخرة، وما عند الله من النعيم المقيم، فقال: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} أي: ما عند الله من ثواب الطاعات، والجزاء عليها بالجنات خير من متاع الدنيا، وأبقى؛ لأنه دائم لا ينقطع، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة.
ثم بيّن سبحانه لمن هذا، فقال: {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: صدقوا، وعملوا على ما يوجبه الإيمان.
{وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: يفوّضون إليه أمورهم، ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره {والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش} الموصول في محل جرّ معطوف على الذين آمنوا، أو بدلًا منه، أو في محلّ نصب بإضمار: أعني والأوّل أولى، والمعنى: أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون.
والمراد بكبائر الإثم: الكبائر من الذنوب، وقد قدّمنا تحقيقها في سورة النساء.
قرأ الجمهور: {كبائر} بالجمع.
وقرأ حمزة، والكسائي: {كبير} بالإفراد، وهو يفيد مفاد الكبائر، لأن الإضافة للجنس كاللام.
والفواحش هي من الكبائر، ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها، وذلك كالقتل، والزنا، ونحو ذلك.